أول من كتب القرآن: دراسة تاريخية دينية
القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أُرسل على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ويُعد المصدر الأول للتشريع في الإسلام، وهو منبع العقيدة التي يعتمد عليها المسلمون في جميع شؤون حياتهم. من خلال هذا الكتاب، الذي يُعتبر معجزة إلهية في فصاحته، وأسلوبه، وجمعه، وأحكامه، يوجه الله سبحانه وتعالى المؤمنين نحو الطريق الصحيح، ويوضح لهم أحكام الدين الحنيف. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من هو أول من كتب القرآن الكريم؟ وما هي ظروف كتابة القرآن في تلك الفترة؟
القرآن الكريم وكتابته في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم
قبل الحديث عن أول من كتب القرآن الكريم، يجب أن نوضح طبيعة كتابة القرآن في العهد النبوي. فالقرآن الكريم في البداية كان يُتلقى من النبي محمد صلى الله عليه وسلم عبر الوحي من جبريل عليه السلام. كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات، فيقوم النبي بتلاوتها على الصحابة الذين كانوا يحرصون على حفظها وكتابتها.
إحدى الملاحظات المهمة هي أن القرآن الكريم لم يُجمع في كتاب واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان موزعًا على شكل سور وآيات محفوظة في قلوب الصحابة، ومكتوبة على الحجارة، الرقاع، الجلد، العظام، وغيرها من المواد التي كانت متاحة في ذلك الوقت.
أوائل الكتابة: من هم كتبة الوحي؟
كانت هناك مجموعة من الصحابة الذين تخصصوا في كتابة الوحي والنقل عنه مباشرة. يُعتبر هؤلاء الصحابة “كتبة الوحي”، وهم من نقلوا القرآن إلى الكتابة بشكل مباشر تحت إشراف النبي صلى الله عليه وسلم. من أشهر هؤلاء الصحابة:
-
زيد بن ثابت
يُعد زيد بن ثابت هو أشهر من كتب القرآن الكريم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. كان زيد من كبار الصحابة وواحدًا من كتبة الوحي الموثوقين. كان النبي صلى الله عليه وسلم يعهد إليه بكتابة الوحي عندما كان ينزل عليه. وكان زيد بن ثابت شابًا حاذقًا في الكتابة، مما جعله يُختار للقيام بهذه المهمة الجليلة. يُذكر أيضًا أن زيد بن ثابت كان من أوائل الصحابة الذين عملوا على جمع القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وكان هو المسؤول عن جمع القرآن في مصحف واحد. -
أبو بكر الصديق
بينما كان الخليفة الأول أبو بكر الصديق هو أول من أمر بجمع القرآن الكريم في كتاب واحد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أيضًا من الذين عاصروا كتابة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. كان أبو بكر يحرص على توثيق القرآن وكان من الصحابة الذين استمعوا مباشرة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم أثناء تلاوته للآيات. -
عثمان بن عفان
الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، كان له دور كبير في كتابة القرآن الكريم أيضًا. في عهده، وبعد جمع القرآن في عهد أبي بكر، أمر عثمان بنسخ المصاحف وتوزيعها على الأمصار الإسلامية. فكان له دور كبير في توثيق القرآن وتوحيد نسخه. -
علي بن أبي طالب
علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان أيضًا من كتبة الوحي الذين كتبوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان علي معروفًا بذكائه وفصاحته، وكان من أقرب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. بعد وفاة النبي، عمل علي على حفظ وتفسير القرآن.
مراحل جمع القرآن الكريم في عهد النبي
أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كان القرآن الكريم يُكتَب على العديد من المواد كالجلود والعظام وأوراق النخيل، وكان الصحابة يجتمعون ويكتبون ما يُوحى به إلى النبي. إلا أن ذلك لم يكن يشمل جمع القرآن في مصحف واحد، فقد كانت الآيات والسور تُكتب وفقًا لوقت نزولها، وكان الصحابة يحفظون هذه الآيات عن ظهر قلب.
إضافة إلى ذلك، كان النبي صلى الله عليه وسلم يُرسل من كتبة الوحي إلى مختلف الأماكن ليكتبوا الآيات التي كانت تُنزل، وكان الصحابة يُخزنون هذه الكتابات في أماكن مختلفة. ووفقًا للعديد من الروايات، فقد كان بعض الصحابة يجتمعون في المسجد النبوي في المدينة لكتابة وتوثيق القرآن.
جمع القرآن في عهد الخليفة أبي بكر الصديق
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ الصحابة يواجهون تحديًا جديدًا يتمثل في وفاة العديد من الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب في معركة “اليامامَة” في السنة 11 هـ، حيث سقط عدد كبير من حفاظ القرآن. وعند ذلك، شعر الخليفة الأول أبو بكر الصديق بالقلق من ضياع القرآن، وقرر أن يجمع القرآن في مصحف واحد.
أمر أبو بكر الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن. بدأ زيد بن ثابت بالتعاون مع صحابة آخرين في جمع الآيات والسور الموزعة على الرقاع والعظام وغيرها من المواد، وتم جمعها لأول مرة في مصحف واحد، وذلك في المدينة المنورة. لم يكن هذا جمعًا للمصحف فقط، بل كان أيضًا تأكيدًا على ضرورة المحافظة على القرآن من الضياع.
جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان بن عفان
أما في عهد الخليفة عثمان بن عفان، فقد توسع انتشار الإسلام بشكل كبير، وكانت هناك حاجة لتوحيد نسخ القرآن في جميع أنحاء الدولة الإسلامية، حيث كان الناس يقرؤون القرآن بلهجات مختلفة. فقرر عثمان جمع النسخ المتنوعة من القرآن في نسخة واحدة موحدة.
أمر عثمان بن عفان بنسخ عدة مصاحف وإرسالها إلى مختلف الأمصار الإسلامية مثل مكة، الشام، العراق، ومصر. كما أمر بحرق جميع النسخ الأخرى لتجنب الاختلافات في قراءة القرآن، وبهذا تم توحيد النص القرآني.
أول من كتب القرآن الكريم: تقييم تاريخي
من الناحية التاريخية، يُعد زيد بن ثابت هو أول من كتب القرآن في وقت نزوله، حيث كان من أشهر كتبة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم. كانت مهمته دقيقة وشاقة، إذ كان ينقل الوحي بأمانة وحرفية، ويُؤرخ العديد من المؤرخين الذين عاشوا في تلك الفترة له بالجدية والاهتمام في كتابة القرآن كما نزل من الوحي. لكن لا يمكن أن نغفل عن دور الصحابة الآخرين الذين أسهموا بشكل كبير في نقل وتوثيق آيات القرآن، مثل أبو بكر وعثمان وعلي بن أبي طالب.
إن جمع القرآن الكريم وتوثيقه في مصحف واحد في العهد النبوي كان مهمة كبيرة وثمينة، وقد أتمها الصحابة بإخلاص ودقة. ومن خلال هذه الجهود، تمكَّن المسلمون من الحفاظ على القرآن الكريم كما أنزل من دون أي تحريف أو تغيير، وهو ما جعل القرآن الكريم بقاءه وتواتره عبر الأجيال متاحًا لنا إلى يومنا هذا.
